30 - 06 - 2024

نموذج للمرأة العالمة المُحققة المصرية النبيلة| الأستاذة الدكتورة فوقية حُسين محمود

نموذج للمرأة العالمة المُحققة المصرية النبيلة| الأستاذة الدكتورة فوقية حُسين محمود

لم أكن مُنتبهًا إلى مكانة المُفكّرة، المُحقّقة، الكاتبة المصرية العظيمة الأستاذة الدكتورة فوقية حُسين محمود، رغم تردد اسمها أمامي مئات المرات منذ عام 2008م، وأنها مُحققة لكتاب (الإبانة) للإمام أبي الحسن الأشعري، بل تحقيقها يُعدُّ أجودَ تحقيقٍ لهذا الكتاب، ذاع صيتُها بين مُعاصريها، وامتدّ هذا الصيتُ إلى من جاء بعدها، حتى سمعنا عنها الكثير، كانت رحمها الله نموذجًا نادرًا وفريدًا للمرأة المصرية، وكأني بقول أحمد أمين في رثاء الإمام الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرازق، حين قال: "كان أستاذًا للفلسفة في كلية الآداب، فكان في مكانه الذي خُلق له، يُحضّرُ درسه في جِدٍ، ويُلقيه في أمانة، ويوثُق صلته بتلاميذه، فهم أبناؤه البررة، وهو والدهم المحبوب، لا يكتفي معهم بعَلاقته العلمية، بل يتعرّف أحوالهم العائلية، فيحلّ مشاكلهم الداخلية، ويُفرّج أزماتهم النفسية"..." 

وكأنه يصفُ الدكتورة فوقية حُسين، فقد لهج تلاميذُها بالثناء عليها وذكر تلك الصفات فيها، وإني في مُنتهى الحزن لعدم وجود ترجمةٍ وافيةٍ عن هذه المُحققة العالمة النبيلة، حتى الرسالة العلمية التي نوقشت في كلية دار العلوم بجامعة المنيا 2018م، لم تكن بها ترجمة وافية، بل نبذة يسيرة جدًا، حتى تاريخ ميلادها ووفاتها كان مصدر الباحث فيه (الأحوال المدنية)، ولست أدري هل بذلَ الباحثُ جهدًا في البحث عن ترجمةٍ لها، وسؤال تلامذتها وهم على قيد الحياة، والذهاب إلى كلية البنات جامعة عين شمس، والبحث عن بناتها وأحفادها، فلست ناقدًا أو مُدافعًا عن الباحث أو المُشرف، إلا أننا كنا ننتظر ترجمةً وافيةً لها يشترك فيها تلامذتها ومُحبوها، وهذا من البرِّ والوفاء لها، وأجود ما كُتب عنها هو مقال للأستاذ الدكتور محمود محمد علي، بعنوان (فوقية حُسين محمود ونظرية أصالة الفكر الإسلامي)، نُشر على موقع صحيفة المُثقف بتاريخ ٢ يناير ٢٠٢٠م. 

ومنذ أيام تاقت نفسي إلى الحديث عنها وكتابة ترجمة تليق بها، ومقالي هذا الذي بين عينيك الآن هو نقطة بدايتي في الشروع في ذلك. 

وُلدت الدكتورة فوقية حُسين  في ١٧ ربيع الأول سنة 1342 هـ الموافق 27 أكتوبر سنة 1923م. قيل وُلدت في القاهرة وقيل بل هي صعيدية من مُحافظة المنيا - والله أعلم -، جمعت بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الغربية، إذ حصلت على الدكتوراه من جامعة: (أدنبره بإنجلترا)، ثم صارت أستاذًا للفلسفة الإسلامية ورئيس قسمها بكلية البنات جامعة عين شمس، ومنذ ذلك الحين كانت  - رحمها الله - مدرسةً حيةً مُتحركةً، درَّست في عددٍ من الدول منها: السعودية، والسودان، والمغرب، بجانب مؤلفاتها التي تركتها ذخرًا للإسلام، ومنها: 

(مقالات في أصالة المفكر)، و(الجويني إمام الحرمين)، و(مدخل إلى الفلسفة الإسلامية)، و(الفلسفة الإسلامية في المشرق والمغرب)، و(دراسات في علم الأخلاق)، و(دراسات في القيم)، دراسة وترجمة (فيشتة وغاية الإنسان).

وتحقيق كتاب (الإبانة عن أصول الديانة) للإمام أبي الحسن الأشعري، وكتاب (الكافية في الجدل) للإمام الجويني، وكتاب (لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة والجماعة) للإمام الجويني، وكتاب (لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول) لأبي الحجاج يوسف بن محمد المكلاتي؛ وغير ذلك كثير.

تناولت سيرةَ الإمام الأشعري رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً، وبذلت جهدًا كبيرًا في تحقيق كتاب الإبانة، وجمع النسخ الخطية له، وبعد دراستها وتحقيقها له ترى أن كتاب "الإبانة" أسبق من كتاب "اللمع" حيث تقول: إنه قد ثارت حول الإبانة وكتاب اللمع مُناقشاتٌ تخصُّ تاريخ تأليف كل منهما، ورأيي أن الإبانة هو الأسبق.

كانت تتردد على مكتبة الأزهر، ومعهد المخطوطات، ومعهد الدراسات الشرقية، وغيرها. وكانت حياتها كلها في العلم والتحقيق، وتربية جيل عظيم يحمل الراية ويُدافع عن الإسلام، وقد أثنى عليها الكثير من العلماء، منهم: العلامة الدكتور محمد عبد العظيم الديب. وكتبت في كثير من الصحف والجرائد منها مجلة الأزهر، فأخذت، وردّت، وناقشت، وتعقبت، واستدركت، ودافعت، ونقدت، ومن أساتذتها الدكتور إبراهيم بيومي مدكور، والدكتور زكي نجيب محمود، ومن أقرانها العلامة الدكتور عبد الرحمن بدوي، والدكتور أبو الوفا التفتازاني. د. علي زين العابدين الحسيني

كانت - رحمها الله - في الذِروة العُليا في العلم والأخلاق والآداب، وقوة الإيمان وصلاح العمل، والإخلاص في وطنيتها والدفاع عن دينها، ورغم كل ذلك تُؤثر الكتمان وتكره الظهور، لا تَمَلُّ من المُذاكرة والاطلاع، وكانت دائبة التنقيب عن الكتب، تُعطي كل ذي حقٍ حقَه، وتنسب الفضل لصاحبه، دعت إلى تحرير دراسات مُختلفة لسِيَرِ ومذاهب كبار أئمة المُسلمين، لكي نتعرفَ على أنماطٍ مُتعددةٍ من السلوك العربي الأصيل، والجهاد العلمي والديني الصادق عندهم، ونتعرف من خلاله على تاريخ الفكر البشري العربي من جهة، وأثر هذا الفكر في نهضة الغرب من جهة أخرى، بحيث يكون ردًا عمليًّا على مؤرخي الغرب ممن يجعلون النهضة الفكرية للغرب، مُخالفين للحقائق العلمية والتاريخية، ولذلك نرى براعة الدكتورة فوقية في كتابها "الجويني إمام الحرمين"، فلم يكن الكتاب مجرد ترجمة عابرة وسرد لقصة حياته فقط، بل توغلت في الأعماق واستخرجت لنا عوامل تشكيل وبناء شخصية الإمام الجويني، وكأنها ذهبت إلى عصر الإمام فسجلت لنا بيئته بأدق تفاصيلها، فكأن الكتاب بمثابة التطبيق العملي لما قررته ودعت إليه.

تتلمذت على يدها أجيالٌ مُتعاقبةٌ، أحبوها واتخذوها أمًا لهم، ورسخت فيهم قيمة العلم والإنتاج المعرفي، حتى صاروا أساتذةً كبارًا، يحملون الراية، ويحفظون لها الجميلَ، ويسيرون على منوالها في صناعة جيل ينتمي لمدرستها، وكانت تشتري كتبًا لطلابها من مالها الخاص، وتدفع تذاكر القطار لطلابها، تُقسّم الطلاب إلى مجموعات، عبارة عن طلاب السنة التمهيدية للماجستير، ومجموعة لباحثي الماجستير، ومجموعة لباحثي الدكتوراة، فكانت تقوم بالتدريس لهم، ثم تنظر لباحثي الماجستير فيتم النقاش مع كل باحث في موضوعه، والباقي يسمع ويُسجل مُلاحظاتِها، فيتحوّل اللقاء إلى مجلس علم أو ندوة، تكون هي العميدة فيها، ومع ذلك لا تُجبر الباحث على شيء.

ومن تلامذتها: الدكتور الصاوي الصاوي أحمد، والدكتورة فاطمة طلبة، والدكتورة سناء سليمان، والدكتور محمد أحمد السيد، والدكتور السيد محمد عبد الوهاب، والدكتور علاء محمد السيد، والدكتورة سعاد فتحي، والدكتور وهبة طلعت أبو العلا؛ وغيرهم كثير.

قالَ عنها الأستاذ الدكتور الصاوي الصاوي: ا. د فوقية حُسين كانت نعم الإنسانية، ونعم الأستاذة، ونعم الأم، كان لها الفضل على الجميع، وصاحب الفضل لا يموت بدليل أنها ما زالت وستظلّ في قلوب جميع تلاميذها.

ويلفت انتباهي شدة اعتزاز ووفاء الأستاذ الدكتور السيد محمد عبد الوهاب؛ فهو دائم الذكر لها باستمرار، والدعاء لها بالمغفرة والرحمة، حدثته مرة فجاء ذكرها، فسمعت منه الثناء الفخيم عليها.

****

وجملة القول: إن الدكتورة فوقية حُسين كانت عالمةً مُفكرةً مُحققةً، تنضم إلى جيل المُحققات اللواتي حققن إنجازًا حقيقيًا في تحقيق التراث الإسلامي من أمثال عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، وسكينة الشهابي، ووداد القاضي؛ رغم أن التحقيق فرع من ضمن اهتماماتها؛ وبجانب ذلك عملت على تخريج جيل يعي كلمة العلم، ويتمسك بالفكر الإسلامي الأصيل، وكانت تُشجع وتُناقش كل من يتوسم فيه العلم والميل إليه، بكل نشاط وإخلاص، وكانت موضع إعجاب الجميع، حتى كانت تُراسل طلابها في مُختلف الدول، وتردّ على أسئلتهم وتطمئن عليهم، وقد حدثني الأستاذ الدكتور محمد أحمد السيد: أنه كان دائم الزيارة لها في مكتبها، وأثناء إقامته في أمريكا وهي في السعودية كان يُراسلها، وهي ترد عليه برسائل تشجيعية وتطمئن عليه.

تُوفيت رحمها الله في ٢٢ جمادى الأولى 1412هـ الموافق 28 نوفمبر 1991م؛ وقد خرج الجميع ليودِّعوا أمًا وأختًا لكل من تتلمذ على يدها، خرجوا بقلوبٍ مُحترقةٍ بألم الفراق ولكنها سُنّة الحياة.
-----------------------
بقلم: أحمد إبراهيم أحمد الأزهري 






اعلان